القاعدة في بلاد الشام:
الفراغ الذي تولد في المناطق التي انسحب منها بشار الأسد طوعا أو
كرها كان فرصة تاريخية لتسلل مسلحي القاعدة
وخاصة من العراق .رؤيتهم لسورية والعراق متماثلة، ففي العراق احتلال أميركي ونظام
كافر عميل لإيران، وفي سوريا نظام كافر وعميل للغرب ولكن بوصاية روسية إيرانية.
تمكنوا بسرعة من الانتشار في سوريا لأسباب منها قدراتهم العسكرية والمالية، وقبول بعض القطاعات المتطرفة دينيا بما يدعون ويبشرون
به، أو باستغلال الحالة المعيشية المتدهورة للشعب السوري.
في البداية لم يعلنواأهدافهم، وعندما مدوا جذورهم في أوساط الثورة
السورية صرحوا رسميا بانتمائهم لتنظيم القاعدة الداعي لإقامة "الخلافة
الإسلامية" التي فشلوا في إقامتها في العراق وأفغانستان والصومال. والخلافة
برأيهم ليس فيها انتخابات وأحزاب وبرلمان، بل "شورى وعدل وجهاد!". كما
حذروا السوريين من الانتقال من ظلم الديكتاتورية الراهن إلى "ظلم!"
الديمقراطية التي يعتبرونها مستوردة من الغرب الكافر وتتعارض مع الدين حسب فهمهم
له. استبدلوا صراع شعب مع نظام الأسد الاستبدادي المجرم، بصراع طائفي بين سنة
ونصيرية. واعتبروا معركتهم مع النظام تمهد لمعركتهم الكبرى مع
"الصليبية" في العالم المنقسم إلى: معسكر الإيمان حيث يقفون، ومعسكر
الكفر، حيث يقف بقية العالم بشتى دوله ودياناته وعقائده. كما استبدلوا تسمية سوريا
ب “بلاد الشام" والعلم السوري بنجومه الحمر الثلاثة بعلمهم الأسود علم
القاعدة، وهم لا يفرقون بين النظام والمعارضة المدنية السورية التي يعتبرونها تابعة
لأميركا، ولا بالجيش الحر فكلهم كفار برأيهم، ولكنهم يركزون حالياً على تحطيم
النظام.
لو كانت المصيبة هي نشرهم لمفاهيم متخلفة مغايرة لما يهدف إليه
السوريون من ثورتهم التي قدموا كل هذه التضحيات لتحقيق أهدافها لهانت، لكن أعمالهم
مصيبة حلت بالشعب إلى جانب ما ابتلي به من توحش النظام، فهم في مواجهتهم للنظام
يرتكبون جرائم ضد الإنسانية منها إعدام جماعي لمن يقع بأيديهم من جنود النظام،
وتفجيرات انتحارية ضد اهداف مدنية دون تمييز في مناطق آهلة بالسكان، وخطف رجال دين
من ديانات أخرى لا يعرف عن مصيرهم شيء .. أما في المناطق "المحررة" فقد
فتحوا سجوناً ملأوها بمن يعارضهم حتى لو كان مع الثورة. وقاموا باغتيال قادة في
الجيش الحر، واعتقلوا أعضاء مجالس محلية منتخبة استبدلوها "بهيئات
شرعية" تشبه محاكم التفتيش المعروفة والفتاوي الصادرة عنها تمثل قمة الجهل
والتخلف، ومنعوا النشطاء من التظاهر إلا إذا رفعوا أعلامهم وشعاراتهم، وأفتوا بتحريم
الديمقراطية وتكفير مؤيديها وإقامة الحد عليهم، ونهبوا بيوت وأموال عامة وبنوك
ومرافق الاقتصادية. كما فرضوا مقاييسهم الصارمة لأساليب المعيشة، فمنعوا النساء من
السير مع الرجال في الشوارع، وفصلوا الأولاد عن البنات في المدارس، وأجبروا النساء على ارتداء النقاب
وحظروا قيادتهن للسيارة، ومنعوا الكحول وجلدوا من اعتبروهم مخالفين للشريعة وقطعوا
رؤوس بعضهم أمام الجموع، والأهم أنهم تركوا جبهات القتال مع النظام للتفرغ لتثبيت
سيطرتهم وأدوات قمعهم في المناطق المحررة وحتى عندما حوصرت الخالدية ومن قبلها
القصير وتلكلخ وخرجت نداءات الاستغاثة إلى العالم بأسره وكانت 25 كتيبة من قواتهم
بالقرب منهم لم يلبي أي منها النداء.
وهكذا وفروا للنظام المصداقية التي يبحث عنها منذ ادعائه في بداية
الثورة بأنه لا يواجه شعب ثار ضد استبداده، بل هو يقاتل إرهابيين خارجيين ويخوض
غمار حرب طائفية، كما أعطوا الحجة لتقاعس المجتمع الدولي عن مد الثوار بالأسلحة.
كما أدت أعمالهم لتراجع دعم الثورة داخليا من قطاعات شعبية باتت تخشى سقوط النظام وتتوقع
أن الآتي سيكون أسوأ مما هو قائم حالياً، كما شتتوا الجهود المفترض أن تتضافر
جميعها لإسقاط النظام، فرفضوا الخضوع لقيادات الجيش الحر، بل وأدت أعمالهم
لتصادمات بين الطرفين تهدد الثورة بالفشل، مما أقنع الكثيرين بأن النظام أطلقهم
لتخريب الثورة. وهذا ما قام به بشار سابقا عندما استخدمهم قبل أعوام بالعراق ولبنان وأمن لهم
الدعم والتغطية لما يقدمونه من خدمات تؤمن بقائه واستمرار نفوذه في المنطقة. وحتى
عندما ينقلبون عليه يستفيد من سرقتهم للثورة السورية وتشويهها وحرفها عن أهدافها.
هل في مقدور الثورة
السورية بتشكيلاتها الحالية السياسية والعسكرية أن تقاتل على جبهتين: جبهة النظام
وجبهة القاعدة؟؟؟