منقول عن عرض لنيويورك تايمز بتصرف:هنري كيسنجر في كتابه الجديد " النظام
العالمي"
لا يتردد هنري كيسنجر، في الاعراب عن اعتقاده بأنه لم يكن هناك قط «نظام عالمي»
حقيقي فعلى امتداد التاريخ حددت كل حضارة
مفاهيمها عن النظام، واعتبرت نفسها مركز
العالم، وتصورت قيمها كأسس مهمة على صعيد الكون. وفي هذا الإطار تصورت الصين
نظاماً ثقافياً عالمياً تراتبياً يتربع على ذروته الامبراطور. أما روما فقد تصورت
نفسها محاطة بالبرابرة، وعندما انقسمت الامبرأطورية الرومانية طورت الشعوب
الأوروبية مفهوماً متقدماً لتوازن الدول ذات السيادة، وسعت إلى نشر هذا المفهوم
عبر العالم. أما الإسلام ففي قرونه الأولى، اعتبر نفسه الوحدة السياسية الشرعية
الوحيدة في العالم المقدر لها أن تنتشر بلا انتهاء إلى أن تحقق مبادئه الدينية
تناغم العالم. أما الولايات المتحدة فقد كانت وليدة الاقتناع بقابلية الديمقراطية
للتطبيق على نحو شامل، وهو الاقتناع الذي قاد سياساتها منذ تلك البداية المبكرة.
وهكذا فالمؤلف ينظر إلى تطورات النظام العالمي بمنظور لا يخلو من التفاؤل، ابتداء من تحليل النظام متعدد الأقطاب في أوروبا، وصولاً إلى النظام في آسيا والدور الطموح للولايات المتحدة على الصعيد العالمي لكن هذا المنظور المتفائل سرعان ما يتخلى عنه المؤلف في تحليله للوضع في الفصلين الثالث والرابع من الكتاب، حيث يتناول في الفصل الثالث التيار الإسلامي والشرق الأوسط تحت العنوان الفرعي الدال «عالم من اختلال النظام». علي حين ينصب الفصل الرابع على الولايات المتحدة وإيران تحت العنوان الفرعي «مداخل إلى النظام».
نهجان متعارضان:
تحت عنوان «الربيع العربي والطوفان السوري»، يقول كسينجر أن الربيع العربي، الذي انطلق في أواخر عام 2010، قد أثار للحظة عابرة الآمال في أن القوى الأوتوقراطية والمتشددة المتصارعة في المنطقة قد تحولت إلى قوى لا أهمية لها ،على يد موجة جديدة من الإصلاحيين وقد قوبلت موجات هذا الربيع في تونس ومصر بالابتهاج من القادة السياسيين الغربيين ومن الاعلام الغربي، باعتبارها ثورة إقليمية يقودها الشباب.
فسر الكثيرون في الغرب أحداث ميدان التحرير في مصر على أنها إثبات لضرورة ظهور بديل للأنظمة القائمة على الطغيان. غير أن المشكلة الحقيقية، من منظور واشنطن، هي أنها وجدت من الصعب اكتشاف العناصر التي يمكن منها تشكيل القادة الذين يمكن أن يمضوا قدماً بهذه الثورات لتشكيل دولة المؤسسات وهذا هو السبب في أن بعض المسؤولين في الولايات المتحدة دعموا تنظيم الاخوان المسلمين، على الرغم من أنهم يعرفون أنه أبعد ما يكون عن الديمقراطية ويتابع المؤلف أن تطلعات أميركا فيما يتعلق بالديمقراطية للمنطقة، أفضت إلى تعبيرات بليغة عن مثالية واشنطن. ولكن مفاهيم الضرورات الأمنية تضاربت مع الديمقراطية. فأولئك الذين التزموا بإضفاء الطابع الديمقراطي وجدوا أن من الصعب اكتشاف القادة الذين يدركون أهمية الديمقراطية باعتبارها شيئاً آخر غير كونها أداة لتحقيق سيطرتهم. وفي الوقت نفسه فإن دعاة الضرورات الاستراتيجية لم يتمكنوا من اكتشاف كيف تتطور الأنظمة المستقرة بطريقة ديمقراطية ،أو حتى إصلاحية. وفشلت إضافة الديمقراطية في معالجة الفراغ الأمني الذي برز كما تعرض النهج الاستراتيجي للعرقلة بفعل قوة مؤسسات الأنظمة البائدة التي لا زالت موجودة.
لقد بدأ الربيع العربي باعتباره انتفاضة جيل جديد من أجل الديمقراطية الليبرالية، ولكن سرعان ما قفز الكثيرون على اكتافه وتعرض للانقطاع أو السحق، وتحول الابتهاج إلى شلل. وبرهنت القوى السياسية المغروسة في المؤسسات العسكرية والدينية والأرياف، على أنها أقوى وأكثر تنظيماً من عناصر الطبقة الوسطى التي أطلقت الربيع و تظاهرت من أجل الديمقراطية. وعلى صعيد الممارسة، فإن الربيع العربي أظهر التناقضات الداخلية للعالم العربي و الإسلامي والسياسات المصممة لحسمها ولم يستطع التغلب عليها.إن شعار الربيع العربي «الشعب يريد إسقاط النظام» لم يستطع الإجابة عن السؤال ما المراد بالشعب وما الذي سيحل محل السلطات التي سيطاح بها. لقد تعرضت النداءات الأصلية لمتظاهري الربيع العربي من أجل حياة سياسية واقتصادية مفتوحة للإطاحة من خلال الصراع بين الأيديولوجيات المتشددة والنزعة السلطوية التي دعمتها المؤسسة العسكرية.
الطوفان السوري:
يرى كيسنجر أن الثورة السورية التي يسميها " الطوفان السوري" بدأت كتكرار للثورة المصرية في ميدان التحرير، ولكن مع فارق مهم بينهما، وهو أن الثورة المصرية وحدت في البداية القوى الكامنة ضد نظام مبارك ، بينما في سوريا أعادت الثورة التوترات القديمة إلى الظهور(بسبب ما قام به بشار من تجييش طائفي) وأيقظت الصراع بين الشيعة والسنة وبسبب هذه البنية الديموغرافية في سوريا، فإن الثورة اجتذبت جماعات طائفية أو دينية لم يكن أي منها على استعداد لأن يسلم مصيره لقرارات يتخذها الآخرون كما أن تدخل دول و قوى أجنبية في الصراع، وانتشار الفظائع أدخلت الثورة فيما يشبه حربا أهلية وانقسم المجتمع إلى جيوب عرقية وطائفية و يشدد كسينجر على أن الإدارة الأميركية كانت تعامل الانتفاضة ضد الأسد من خلال المقارنة مع الإطاحة بالرئيس المصري حسني مبارك، ووصفت بأنها نضال من أجل الديمقراطية وكان من المتوقع أن تتوج بالإطاحة بحكومة الأسد وأن يحل محلها ائتلاف حكومي ديمقراطي شامل.وقد صاغ الرئيس الأميركي باراك أوباما هذه الموقف في آب 2001 عندما دعا صراحة بشار الأسد إلى «التنحي» لكي يتمكن الشعب السوري من الوصول إلى حقوقه الشاملة وكان من المتوقع أن يؤدي تصريح أوباما إلى حشد المعارضة الداخلية للأسد وأن يفضي إلى دعم دولي للإطاحة به. هنا يشير هنري كيسنجر إلى أن هذا هو السبب في أن أميركا ضغطت من أجل «حل سياسي» من خلال الأمم المتحدة على أساس تنحية الأسد من سدة السلطة، وتشكيل حكومة ائتلافية، ولكن التوتر فرض حضوره عندما بادر أعضاء يتمتعون بحق النقض في مجلس الأمن إلى رفض هذه الخطوة أو أي إجراءات عسكرية في سورية وبعد ذلك عندما برزت المعارضة المسلحة في نهاية المطاف داخل سورية، وكان من بينها عناصر محدودة يمكن أن توصف بأنها ديمقراطيةو معتدلة عند هذا المنعطف كان الصراع في سورية قد تجاوز كونه قضية الأسد، فبالنسبة للفاعلين الرئيسيين في الصراع كانت القضايا مختلفة بشكل جوهري عن الرؤية الأميركية، فقد نظر الفاعلون السوريون والإقليميون إلى الحرب على أنها ليست حرباً حول الديمقراطية، وإنما حول السيطرة وكانوا مهتمين بالديمقراطية فحسب طالما أنها تمضي بجماعتهم إلى سدة السلطة ولم يؤيد أي منهم نظاماً سياسياً لا يضمن سيطرة فريقه على النظام السياسي و هكذا بادرت القوى الإقليمية إلى صب الأسلحة والأموال والدعم اللوجستي إلى سورية لصالح مرشحيها الطائفيين المفضلين.
إعادة تصور المنطقة:
هنا تحول الصراع في سورية ألى إعادة رسم التصور السياسي للبلاد، وربما إعادة رسم التصور السياسي لمنطقة الشرق الأوسط كلها وفي هذا الاطار، نظرت كل الأطراف المنخرطة في الصراع على أنها تخوض معركة بقاء.
فشل للمجتمع الدولي!
ويخلص المؤلف إلى أن نظاماً اقليمياً أو دولياً فعالاً كان يمكن أن يحول دون الكارثة التي تشهدها سورية، أو تحتويها. وهو يشير إلى أن التدخل الخارجي الكبير في مرحلة مبكرة من الصراع كان من شأنه تحجيم القوى المتصارعة، ولكنه كان يتطلب أمداً طويلاً وحضوراً عسكرياً كبيراً لكي يستمر وربما كان من شأن إجماع سياسي عراقي أن يوقف الصراع عند الحدود السورية، ولكن السياسة الطائفية لدى حكومة المالكي وارتباطها بإيران تسبتت بعبور الحرب إلى العراق .كان من الممكن للمجتمع الدولي أن يفرض حظرأ على ارسال الأسلحة إلى سوريا والميليشيات المتشددة، ولكن ذلك كان أمراً مستحيلاً بفعل الأهداف المتضاربة للأعضاء دائمي العضوية في مجلس الأمن. ومع غياب الاجماع على المستوى الدولي فيما يتعلق بسوريا وكيفية حسم الأمور فيها وتشظى المعارضة السورية، فإن الانتفاضة التي بدأت هناك باسم القيم الديمقراطية قد تحولت إلى إحدى أكبر الكوارث الإنسانية.
واشنطن تدعم الديكتاتورية والديموقراطية معاً:
يرى هنري كيسنجر أن قيم السياسة الخارجية الأميركية وأهدافها في المنطقة تعكس جانباً مهماً من الأعراف الأميركية. غير أنها إذا مورست باعتبارها المفهوم المحوري للاستراتيجية الأميركية، فإنها سوف تثير ورطاتها الخاصة. هنا تبرز مجموعة مهمة من الأسئلة التي يطرحها التحرك الأميركي في المنطقة: هل تعتبر أميركا نفسها مضطرة لدعم كل انتفاضة شعبية ضد أي حكومة غير ديمقراطية بما في ذلك تلك الحكومات التي كانت تعتبر حتى الآن مهمة في الحفاظ على النظام الدولي؟ هل كل مظاهرة ديمقراطية بحكم تعريفها؟
من المنظور الأميركي، فإن من بين مساهمات واشنطن الأساسية في الربيع العربي إدانة ومعارضة والعمل على تنحية الحكومات التي اعتبرتها دكتاتورية بما في ذلك حكومة حسني مبارك، التي كانت واشنطن حتى ذلك الحين تعتبرها حليفاً قيماً غير أن الرسالة المركزية بالنسبة لدول أخرى صديقة للولايات المتحدة في المنطقة تم النظر إليها على أنها التهديد بالتخلي الأميركي، وليس فوائد الإصلاح الليبرالي.
يقتضي العرف الغربي تأييد المؤسسات الديمقراطية والانتخابات الحرة وما من رئيس أميركي يتجاهل هذا الجانب من المشروع الأخلاقي الأميركي ولكن إذا طبق هذا الأمر على الأطراف التي تجعل الديمقراطية مرادفاً للهيمنة الدينية، فإن دعم الانتخابات يمكن أن تؤدي في هذه الحالة إلى ممارسة واحدة فقط لها.ومن هنا فإن الولايات المتحدة تشهد النقاش الذي لم يحسم بعد بين الاهتمامات الأمنية وأهمية تطوير الحكم الإنساني والشرعي. ويبدو هذا الأمر جليا أيضاً باعتباره مسألة وقت: فإلى أي مدى تنبغي المخاطرة بالمصالح الأمنية من أجل نتيجة التطور النظري؟ إن رجل الدولة يتعين عليه أن يوازن هذا الأمر في كل مرة تثور هذه القضية.ولكن كقاعدة عامة فإن المسار الأكثر قابلية للحفاظ عليه سوف يتضمن مزيجاً من الواقعية والمثالية، ولكن غالباً ما يجري استبعادهما في النقاش الأميركي باعتبارهما نقيضين لا سبيل إلى الجمع بينهما.
المؤلف والكتاب:
هنري كيسنجر مستشار الرئيس الأميركي الأسبق لشؤون الأمن القومي ووزير الخارجية الأسبق في إدارة ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد وعلى مستوي الشرق الأوسط، ارتبط اسم كيسنجر بسياسة الخطوة – خطوة، التي كان لها تأثير بالغ العمق في تطورات المنطقة، وقد حصل على جائزة نوبل للسلام في عام 1973، كما تلقى وسام الحرية من الرئيس الأميركي ، وألف العديد من الكتب حول السياسة الخارجية والدبلوماسية، أبرزها كتابه «الدبلوماسية».
يعرض هذا الكتاب رؤية معمقة لجذور التناغم الدولي والاختلال العالمي، ويلقى الضوء على التحديات في القرن الحادي والعشرين، و كيفية بناء نظام دولي مشترك في عالم من الرؤى التاريخية المتباينة والصراع العنيف والتقنية المنتشرة والتطرف الأيديولوجي.
وعلى امتداد تسعة فصول وخاتمة دالة، يمضي بنا المؤلف إلى منعطفات مهمة في التاريخ الحديث، حيث نطل على أسرار مفاوضات إدارة نيكسون مع هانوي حول نهاية حرب فيتنام، مجادلات الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان مع الزعيم السوفييتي غورباتشوف في ريكيافيك، كما نتابع تأملاته حول مستقبل العلاقات الأميركية الصينية وتطور الاتحاد الأوروبي. ويستقطب اهتمامنا ما يطرحه المؤلف حول استجابة الغرب للربيع العربي، والدروس المستفادة من حربي العراق وأفغانستان، والتوترات الراهنة مع روسيا حيال الوضع في أوكرانيا.
وهكذا فالمؤلف ينظر إلى تطورات النظام العالمي بمنظور لا يخلو من التفاؤل، ابتداء من تحليل النظام متعدد الأقطاب في أوروبا، وصولاً إلى النظام في آسيا والدور الطموح للولايات المتحدة على الصعيد العالمي لكن هذا المنظور المتفائل سرعان ما يتخلى عنه المؤلف في تحليله للوضع في الفصلين الثالث والرابع من الكتاب، حيث يتناول في الفصل الثالث التيار الإسلامي والشرق الأوسط تحت العنوان الفرعي الدال «عالم من اختلال النظام». علي حين ينصب الفصل الرابع على الولايات المتحدة وإيران تحت العنوان الفرعي «مداخل إلى النظام».
نهجان متعارضان:
تحت عنوان «الربيع العربي والطوفان السوري»، يقول كسينجر أن الربيع العربي، الذي انطلق في أواخر عام 2010، قد أثار للحظة عابرة الآمال في أن القوى الأوتوقراطية والمتشددة المتصارعة في المنطقة قد تحولت إلى قوى لا أهمية لها ،على يد موجة جديدة من الإصلاحيين وقد قوبلت موجات هذا الربيع في تونس ومصر بالابتهاج من القادة السياسيين الغربيين ومن الاعلام الغربي، باعتبارها ثورة إقليمية يقودها الشباب.
فسر الكثيرون في الغرب أحداث ميدان التحرير في مصر على أنها إثبات لضرورة ظهور بديل للأنظمة القائمة على الطغيان. غير أن المشكلة الحقيقية، من منظور واشنطن، هي أنها وجدت من الصعب اكتشاف العناصر التي يمكن منها تشكيل القادة الذين يمكن أن يمضوا قدماً بهذه الثورات لتشكيل دولة المؤسسات وهذا هو السبب في أن بعض المسؤولين في الولايات المتحدة دعموا تنظيم الاخوان المسلمين، على الرغم من أنهم يعرفون أنه أبعد ما يكون عن الديمقراطية ويتابع المؤلف أن تطلعات أميركا فيما يتعلق بالديمقراطية للمنطقة، أفضت إلى تعبيرات بليغة عن مثالية واشنطن. ولكن مفاهيم الضرورات الأمنية تضاربت مع الديمقراطية. فأولئك الذين التزموا بإضفاء الطابع الديمقراطي وجدوا أن من الصعب اكتشاف القادة الذين يدركون أهمية الديمقراطية باعتبارها شيئاً آخر غير كونها أداة لتحقيق سيطرتهم. وفي الوقت نفسه فإن دعاة الضرورات الاستراتيجية لم يتمكنوا من اكتشاف كيف تتطور الأنظمة المستقرة بطريقة ديمقراطية ،أو حتى إصلاحية. وفشلت إضافة الديمقراطية في معالجة الفراغ الأمني الذي برز كما تعرض النهج الاستراتيجي للعرقلة بفعل قوة مؤسسات الأنظمة البائدة التي لا زالت موجودة.
لقد بدأ الربيع العربي باعتباره انتفاضة جيل جديد من أجل الديمقراطية الليبرالية، ولكن سرعان ما قفز الكثيرون على اكتافه وتعرض للانقطاع أو السحق، وتحول الابتهاج إلى شلل. وبرهنت القوى السياسية المغروسة في المؤسسات العسكرية والدينية والأرياف، على أنها أقوى وأكثر تنظيماً من عناصر الطبقة الوسطى التي أطلقت الربيع و تظاهرت من أجل الديمقراطية. وعلى صعيد الممارسة، فإن الربيع العربي أظهر التناقضات الداخلية للعالم العربي و الإسلامي والسياسات المصممة لحسمها ولم يستطع التغلب عليها.إن شعار الربيع العربي «الشعب يريد إسقاط النظام» لم يستطع الإجابة عن السؤال ما المراد بالشعب وما الذي سيحل محل السلطات التي سيطاح بها. لقد تعرضت النداءات الأصلية لمتظاهري الربيع العربي من أجل حياة سياسية واقتصادية مفتوحة للإطاحة من خلال الصراع بين الأيديولوجيات المتشددة والنزعة السلطوية التي دعمتها المؤسسة العسكرية.
الطوفان السوري:
يرى كيسنجر أن الثورة السورية التي يسميها " الطوفان السوري" بدأت كتكرار للثورة المصرية في ميدان التحرير، ولكن مع فارق مهم بينهما، وهو أن الثورة المصرية وحدت في البداية القوى الكامنة ضد نظام مبارك ، بينما في سوريا أعادت الثورة التوترات القديمة إلى الظهور(بسبب ما قام به بشار من تجييش طائفي) وأيقظت الصراع بين الشيعة والسنة وبسبب هذه البنية الديموغرافية في سوريا، فإن الثورة اجتذبت جماعات طائفية أو دينية لم يكن أي منها على استعداد لأن يسلم مصيره لقرارات يتخذها الآخرون كما أن تدخل دول و قوى أجنبية في الصراع، وانتشار الفظائع أدخلت الثورة فيما يشبه حربا أهلية وانقسم المجتمع إلى جيوب عرقية وطائفية و يشدد كسينجر على أن الإدارة الأميركية كانت تعامل الانتفاضة ضد الأسد من خلال المقارنة مع الإطاحة بالرئيس المصري حسني مبارك، ووصفت بأنها نضال من أجل الديمقراطية وكان من المتوقع أن تتوج بالإطاحة بحكومة الأسد وأن يحل محلها ائتلاف حكومي ديمقراطي شامل.وقد صاغ الرئيس الأميركي باراك أوباما هذه الموقف في آب 2001 عندما دعا صراحة بشار الأسد إلى «التنحي» لكي يتمكن الشعب السوري من الوصول إلى حقوقه الشاملة وكان من المتوقع أن يؤدي تصريح أوباما إلى حشد المعارضة الداخلية للأسد وأن يفضي إلى دعم دولي للإطاحة به. هنا يشير هنري كيسنجر إلى أن هذا هو السبب في أن أميركا ضغطت من أجل «حل سياسي» من خلال الأمم المتحدة على أساس تنحية الأسد من سدة السلطة، وتشكيل حكومة ائتلافية، ولكن التوتر فرض حضوره عندما بادر أعضاء يتمتعون بحق النقض في مجلس الأمن إلى رفض هذه الخطوة أو أي إجراءات عسكرية في سورية وبعد ذلك عندما برزت المعارضة المسلحة في نهاية المطاف داخل سورية، وكان من بينها عناصر محدودة يمكن أن توصف بأنها ديمقراطيةو معتدلة عند هذا المنعطف كان الصراع في سورية قد تجاوز كونه قضية الأسد، فبالنسبة للفاعلين الرئيسيين في الصراع كانت القضايا مختلفة بشكل جوهري عن الرؤية الأميركية، فقد نظر الفاعلون السوريون والإقليميون إلى الحرب على أنها ليست حرباً حول الديمقراطية، وإنما حول السيطرة وكانوا مهتمين بالديمقراطية فحسب طالما أنها تمضي بجماعتهم إلى سدة السلطة ولم يؤيد أي منهم نظاماً سياسياً لا يضمن سيطرة فريقه على النظام السياسي و هكذا بادرت القوى الإقليمية إلى صب الأسلحة والأموال والدعم اللوجستي إلى سورية لصالح مرشحيها الطائفيين المفضلين.
إعادة تصور المنطقة:
هنا تحول الصراع في سورية ألى إعادة رسم التصور السياسي للبلاد، وربما إعادة رسم التصور السياسي لمنطقة الشرق الأوسط كلها وفي هذا الاطار، نظرت كل الأطراف المنخرطة في الصراع على أنها تخوض معركة بقاء.
فشل للمجتمع الدولي!
ويخلص المؤلف إلى أن نظاماً اقليمياً أو دولياً فعالاً كان يمكن أن يحول دون الكارثة التي تشهدها سورية، أو تحتويها. وهو يشير إلى أن التدخل الخارجي الكبير في مرحلة مبكرة من الصراع كان من شأنه تحجيم القوى المتصارعة، ولكنه كان يتطلب أمداً طويلاً وحضوراً عسكرياً كبيراً لكي يستمر وربما كان من شأن إجماع سياسي عراقي أن يوقف الصراع عند الحدود السورية، ولكن السياسة الطائفية لدى حكومة المالكي وارتباطها بإيران تسبتت بعبور الحرب إلى العراق .كان من الممكن للمجتمع الدولي أن يفرض حظرأ على ارسال الأسلحة إلى سوريا والميليشيات المتشددة، ولكن ذلك كان أمراً مستحيلاً بفعل الأهداف المتضاربة للأعضاء دائمي العضوية في مجلس الأمن. ومع غياب الاجماع على المستوى الدولي فيما يتعلق بسوريا وكيفية حسم الأمور فيها وتشظى المعارضة السورية، فإن الانتفاضة التي بدأت هناك باسم القيم الديمقراطية قد تحولت إلى إحدى أكبر الكوارث الإنسانية.
واشنطن تدعم الديكتاتورية والديموقراطية معاً:
يرى هنري كيسنجر أن قيم السياسة الخارجية الأميركية وأهدافها في المنطقة تعكس جانباً مهماً من الأعراف الأميركية. غير أنها إذا مورست باعتبارها المفهوم المحوري للاستراتيجية الأميركية، فإنها سوف تثير ورطاتها الخاصة. هنا تبرز مجموعة مهمة من الأسئلة التي يطرحها التحرك الأميركي في المنطقة: هل تعتبر أميركا نفسها مضطرة لدعم كل انتفاضة شعبية ضد أي حكومة غير ديمقراطية بما في ذلك تلك الحكومات التي كانت تعتبر حتى الآن مهمة في الحفاظ على النظام الدولي؟ هل كل مظاهرة ديمقراطية بحكم تعريفها؟
من المنظور الأميركي، فإن من بين مساهمات واشنطن الأساسية في الربيع العربي إدانة ومعارضة والعمل على تنحية الحكومات التي اعتبرتها دكتاتورية بما في ذلك حكومة حسني مبارك، التي كانت واشنطن حتى ذلك الحين تعتبرها حليفاً قيماً غير أن الرسالة المركزية بالنسبة لدول أخرى صديقة للولايات المتحدة في المنطقة تم النظر إليها على أنها التهديد بالتخلي الأميركي، وليس فوائد الإصلاح الليبرالي.
يقتضي العرف الغربي تأييد المؤسسات الديمقراطية والانتخابات الحرة وما من رئيس أميركي يتجاهل هذا الجانب من المشروع الأخلاقي الأميركي ولكن إذا طبق هذا الأمر على الأطراف التي تجعل الديمقراطية مرادفاً للهيمنة الدينية، فإن دعم الانتخابات يمكن أن تؤدي في هذه الحالة إلى ممارسة واحدة فقط لها.ومن هنا فإن الولايات المتحدة تشهد النقاش الذي لم يحسم بعد بين الاهتمامات الأمنية وأهمية تطوير الحكم الإنساني والشرعي. ويبدو هذا الأمر جليا أيضاً باعتباره مسألة وقت: فإلى أي مدى تنبغي المخاطرة بالمصالح الأمنية من أجل نتيجة التطور النظري؟ إن رجل الدولة يتعين عليه أن يوازن هذا الأمر في كل مرة تثور هذه القضية.ولكن كقاعدة عامة فإن المسار الأكثر قابلية للحفاظ عليه سوف يتضمن مزيجاً من الواقعية والمثالية، ولكن غالباً ما يجري استبعادهما في النقاش الأميركي باعتبارهما نقيضين لا سبيل إلى الجمع بينهما.
المؤلف والكتاب:
هنري كيسنجر مستشار الرئيس الأميركي الأسبق لشؤون الأمن القومي ووزير الخارجية الأسبق في إدارة ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد وعلى مستوي الشرق الأوسط، ارتبط اسم كيسنجر بسياسة الخطوة – خطوة، التي كان لها تأثير بالغ العمق في تطورات المنطقة، وقد حصل على جائزة نوبل للسلام في عام 1973، كما تلقى وسام الحرية من الرئيس الأميركي ، وألف العديد من الكتب حول السياسة الخارجية والدبلوماسية، أبرزها كتابه «الدبلوماسية».
يعرض هذا الكتاب رؤية معمقة لجذور التناغم الدولي والاختلال العالمي، ويلقى الضوء على التحديات في القرن الحادي والعشرين، و كيفية بناء نظام دولي مشترك في عالم من الرؤى التاريخية المتباينة والصراع العنيف والتقنية المنتشرة والتطرف الأيديولوجي.
وعلى امتداد تسعة فصول وخاتمة دالة، يمضي بنا المؤلف إلى منعطفات مهمة في التاريخ الحديث، حيث نطل على أسرار مفاوضات إدارة نيكسون مع هانوي حول نهاية حرب فيتنام، مجادلات الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان مع الزعيم السوفييتي غورباتشوف في ريكيافيك، كما نتابع تأملاته حول مستقبل العلاقات الأميركية الصينية وتطور الاتحاد الأوروبي. ويستقطب اهتمامنا ما يطرحه المؤلف حول استجابة الغرب للربيع العربي، والدروس المستفادة من حربي العراق وأفغانستان، والتوترات الراهنة مع روسيا حيال الوضع في أوكرانيا.