ليت الذي كان ما كان:
لم يكن استقلال العرب عن العثمانيين إلا بداية لحقبة طويلة من الخضوع للمؤامرات الغربية مازلنا نعيش آثارها وتفاعلاتها حتى يومنا هذا، فبعد أن رفع العلم العربي في دمشق في 27 سبتمبر/أيلول 1918، قام الأمير سعيد الجزائري بمقابلة آخر قواد الجيش العثماني وأخذ منه (500) بندقية سلح بها بعض الدمشقيين والمغاربة لحفظ الأمن في البلاد بعد خروج الجيش العثماني منها، وأعلن الأمير سعيد استقلال سورية قبل دخول الجيشين العربي والبريطاني، وألّف حكومة عربية، وخرج للقاء الأمير فيصل، الذي كان يقترب من دمشق، وأرسل سعيد بياناً للأمير الذي أقره على حكومته.
ولم تستمر حكومة الجزائري أكثر من ثلاثة أيام، حيث لم يعجب فرنسا رفع الأعلام العربية في دمشق وبيروت، وسائر المدن السورية، وأعلنوا احتلالهم للساحل السوري، وقامت بريطانيا بمساندة فرنسا وأرسلت رسالة للأمير فيصل تخبره فيها بأنه ليس إلا قائداً للكتائب العربية التابعة للجيش البريطاني، وطلب القائد البريطاني إدموند اللنبي منه إنزال الأعلام العربية وإلغاء الإجراءات الإدارية الأخرى.
وأعلن اللنبي أن بلاد الشام قسمت إلى ثلاثة مناطق عسكرية:
1 ـ المنطقة الجنوبية فلسطين تحت احتلال وحكم عسكري بريطاني مؤقت
2 ـ المنطقة الساحلية (بيروت وسائر الساحل السوري) تحت احتلال وحكم فرنسي مؤقت
3 ـ المنطقة الوسطى (ولايتا حلب وسورية الداخلية) تحت حكم عسكري عربي بقيادة الأمير فيصل.
وبتفويض من اللنبي كلّف الأمير فيصل علي رضا الركابي بتشكيل حكومة عربية مع دخول الجيش العربي دمشق في 1 أكتوبر/تشرين الأول 1918، بينما وصل فيصل بن الحسين و1200 رجلاً من أتباعه في 4 أكتوبر/تشرين الأول.
وفي 5 أكتوبر/ تشرين أول 1918م أذاع الأمير فيصل منشوراً جاء فيه: "تشكلت في سورية حكومة دستورية عربية، مستقلة استقلالاً مطلقاً لا شائبة فيه، باسم مولانا السلطان حسين، شاملة لجميع البلاد العربية، وأنه عهد إلى رضا الركابي باشا بالقيادة العامة، للحكومة المذكورة".
ورغم أن منصب الركابي كان حاكماً عسكرياً لسورية إلا أن حكومته ضمت مجموعة من الوزراء فقد كان هناك وزيراً للداخلية وآخر للمعارف ووزيراً للزراعة وللعدلية وللحربية ...إلخ.
لم تستمر هذه الحكومة طويلاً حيث قدم استقالتها للأمير فيصل في 4 أغسطس/آب 1919م، فبعد مؤتمر الصلح الذي عقد في باريس في 18 يناير/ كانون الثاني 1919، وقرار إرسال لجنة كينغ ـ كراين، وتبخر الأحلام العربية بالوحدة التامة كان العمل موجهاً للحفاظ على الاستقلال وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من البلاد.
لقد حاولت الحكومة الوليدة تثبيت أركان الدولة، وقامت بتعيين مجلس للشورى من رجال العلم والأدب والقانون وذلك للمساعدة في إدارة البلاد، وأصدرت أول جريدة رسمية في دمشق أسمتها "العاصمة" لنشر القوانين والبلاغات والقرارات الرسمية، وألغت حكومة الركابي المحاكم العثمانية وشكلت محاكم مدينة حديثة، وألغت الألقاب العثمانية من أمثال "باشا" و"بيك".
كما استحدثت مجمع اللغة العربية بدمشق، وهو أقدم مجمع للغة العربية، وأعادت العمل في كليتي الطب والحقوق المؤسستين خلال العصر العثماني، ما شكّل نواة الجامعة السورية لاحقاً، وقامت بتقديم تفويض للأمير فيصل لتمثيل سورية والدفاع عنها في الخارج.
لم تكن الاستعدادات العربية كافية لمواجهة التخطيط الاستعماري لفرنسا وبريطانيا، وقد سافر الأمير فيصل إلى أوروبّا ليطالب بحقوق الاستقلال، وذلك بعد أن وصلته رسالة باسم الحلفاء، جاء فيها إنّ الفريقين اجتمعوا في سان ريمو، وقرروا إعطاء الفرنسيين الوصاية على سورية والإنكليز الوصاية على العراق باعتبارهما دولتين اثنتين مستقلّتين، وطُلب فيها إلى الأمير فيصل بإلحاح المجيء إلى أوروبّا ليتمكّن من بسط قضيّته وقضيّة البلاد.
وسافر الأمير فيصل إلى أوروبّا بعد أن "تلقّى تفويضاً من وفود أعيان سورية لإدارة سياسة البلاد الدّاخليّة والخارجيّة، وذلك في اجتماع كبير في دار البلديّة في 14 مايو/أيار، عاهدهم فيه على الاستقلال".
إلا أنه عاد ليقول جملته الشهيرة: "ليس بالإمكان أفضل مما كان"، فليته ما ذهب، وليت الذي كان ما كان.
منقول عن " رغداء زيدان"