من يتأمل خريطة الشرق الأوسط وموقع سوريا فيها كقوة وسط مسيطرة في منطقة حساسة بين الشرق والغرب، يتذكر بسرعة عبارة نابليون بونابرت: "إن سياسة الدولة تكمن في جغرافيتها". يتوجّب أن ينطبق هذا ملياً على صياغة سياسات سوريا المحاذية لتركيا الدولة العضو في حلف شمال الأطلسي، والمواجهة لإسرائيل، والجارة لأردن الهاشميين وللبنان المسيحي الطائفي والمتاخمة للعراق وجواره النفطي والخليجي العربي والإيراني.
بلدٌ كهذا عتيق يضجّ بالتاريخ والحضارات والجيوبوليتيك الحيوي والمتطور، يصعب جعله لاعباً ثانوياً وفيه حلم امبراطوري دفين من الأمويّين إلى البعثيين ولو أنّ البعض يحاول إضعافه وتحجيمه عبر إنكار تنوّعه الإثني والديني، إنه قلب العروبة ولكنه مع ذلك يضم 22 طائفة وهو مهد كل الديانات السماوية منذ بداياتها.
في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، ارتبطت مقولة "الصراع على سوريا" بالدور المتعاظم للجيش السوري في الحياة السياسية وبتواتر الانقلابات العسكرية التي حركتها النزعات الداخلية والمطامع الخارجية في السيطرة على هذا البلد من دون الأخذ في الاعتبار مصالح شعبه وطموحاته. لقد ارتبطت نجاحات الحكم البعثي في مرحلة الأسد الأب والابن بضمان الابتعاد عن الحرب مع إسرائيل عبر تفجير حروب لبنان ومحاربة القرار الفلسطيني المستقل، وكذلك من خلال حبك شبكة توازنات بين الصديق السوفياتي والغرب الأميركي خصوصاً، وكذلك بين الحلف الاستراتيجي مع إيران من جهة والعلاقة المتينة مع المملكة العربية السعودية من الجهة الأخرى.بيد أنّ الحكم السوري الحالي الذي استمر على النهج نفسه مع اسرائيل في جبهة الجولان، اندمج في المحور الإيراني من دون مراعاة عمقه العربي
عشية الذكرى الثانية للحراك الثوري السوري، يستمر الإمعان في العنف والتدمير من نظام يتغول على شعبه بتفاعل مع شركائه، وبتواطؤ خفي ممّن يدعون أنهم أعدائه. وتتكشف أوراق اللاعبين :إيران لم تتردد على لسان أحد مسؤوليها في اعتبار سوريا بمثابة المحافظة الـ35و تلوّح بإرسال جيش من 60 ألف شخص للقتال فيها لأنّ "سقوط دمشق يعني سقوط طهران".
أمّا مع تركيا فالحال ليس بأفضل، إذ يستنتج من يراقب ما يجري على الحدود التركية ـ السورية والمعارك في رأس العين إلى الشدادة وغيرها، سيطرة الهاجس الكردي على صانع السياسة التركية المندفع في لعبة إعادة رسم للمعادلات من خلال لعب ورقة التركمان مثلاً وتضخيم حجمهم الديموغرافي إضعافاً، أو من خلال عدم المساعدة الفعلية في دعم الجيش الحر والقوى الديموقراطية والمدنية أمام التغلغل الآتي من وراء الحدود لمجموعات متشددة.
وكان سونر چاغاپتاي مدير برنامج الأبحاث التركية في معهد واشنطن وباراغ خانا الباحث في مؤسسة أميركا الجديدة، قد تساءلا في مقالة لهما في مجلة ذي اتلنتيك (تشرين الثاني 2012) بما فحواه: "لماذا يمثل تقسيم سوريا فرصة تاريخية بالنسبة إلى تركيا؟". ومن يرجع لتاريخ ما قبل انهيار السلطنة العمانية وما بعده، يتراوح تقييمه للدور التركي بين خضوعه لوزن الأطماع التاريخية (إقليم الاسكندرون) ومنطق المصالح المشروعة.
لكن احتمال اقتطاع أجزاء من سوريا او العودة لنغمة الولاية، سيستحيل تطبيقهما لأنّ تفتت سوريا سيكون بداية تفتت النسيج المعقد في كل المنطقة ولأنه في ضوء كل الأسباب المقنعة التي ربما تبرر دعم كيان كردي مستقل في سوريا، توجد عقبة رئيسية تقف أمام تركيا وتتمثل في سكانها الأكراد الذين ظلوا لأمد طويل يثيرون مسألة استقلالهم.
أما بالنسبة إلى إيران، فقد سقطت الأقنعة وبانت جلياً تبعية النظام السوري لها، وقد اعتبر رئيس الوزراء المنشق رياض حجاب بأن الحاكم الفعلي في سوريا هو اللواء قاسم سليماني قائد قوة القدس في الحرس الثوري الإيراني.
تعتقد الأوساط الأوروبية أنّ طهران الذاهبة إلى التفاوض حول ملفها النووي آخر هذا الشهر والتي طرحت بسخرية وضع ملفّي البحرين وسوريا على الطاولة، لا تتردد في المزايدة ورفع وتيرة التوتر قبل التفاوض. ومن هنا أتى الهجوم الإسرائيلي في جوار دمشق أواخر كانون الثاني ليسهم بخلط الأوراق عشية المفاوضات. وهكذا تتحول سوريا حتى إشعار آخر إلى ساحة لعبة أمم في اشتباك إقليمي أوسع.
واليوم على ضوء العجز العربي والإسلامي (وكلاهما كانا بلا قيمة منذ الأزل) وفي ظل الاستنزاف بين الغرب المتراجع وروسيا المصممة على الاحتفاظ ببوابتها السورية وإصرارها على العودة لمقعدها الذي طردت منه منذ 20 عاما، تحتدم اللعبة بين مشروع إيراني يعتمد على القوة الفظة للحفاظ على نفوذ إقليمي، وبين مشروع تركي طموح يعتمد على القوة الناعمة، وفي خلفية المشهد توجد إسرائيل ولعبة مصالحها.
يصعب إذن تصور النتيجة الختامية للصراع حول سوريا التي لن تذوب لا في إيران ولا في تركيا، ومع أنّ خيار التقسيم يبقى انتحارياً، لكن الأمر الواقع من اهتراء ومناطق نفوذ في المدى القريب سيمدد المأساة بانتظار الحسم الإقليمي يوما وعند استنفاد النزاع السوري لوظيفته الجيوسياسية كنقطة تقاطع لصراعات الآخرين.
ماذا عن حزب الله في سورية؟
لم يعد ورود خبر عن سقوط قتلى لبنانيين تابعين لحزب الله امرا مستهجنا، لقد انتقل حزب اللات من نفي المشاركة عسكريا في دعم النظام السوري، الى ترويج غير مباشر لقيامه بدورحماية المقامات الدينية الشيعية في سورية، وانه يقوم بمهمة دفاعية عن بعض القرى ذات الغالبية السكانية الشيعية داخل الاراضي السورية تلك القريبة من الحدود اللبنانية الشرقية- الشمالية. واذا اقتضى الحال تبرير بعض المواجهات، فثمة عنوان كبير جاهز ايضا هو حماية خط امداد المقاومة الذي توفر الاراضي السورية ممرا وقاعدة له.
كانت اعلنت وكالة الصحافة الفرنسية امس عن قتل ثلاثة لبنانيين من الطائفة الشيعية وجرح 14 آخرون في معارك في سوريا، كانوا "في مواجهة للدفاع عن النفس". بعد ساعات من إعلان الجيش الحر عن قتل 24 من مقاتلي حزب اللات إثر هجومهم على قرى سورية لاحتلالها وبعد اتهام المجلس الوطني السوري لحزب الله بـ"التدخل عسكريا" و"شن هجوم مسلح" في منطقة القصير وقال المجلس ان عناصر من حزب الله قامت "بهجوم مسلح على قرى أبو حوري والبرهانية وسقرجة السورية في منطقة القصير بمحافظة حمص مما أوقع ضحايا بين المدنيين السوريين".
مسار الاحداث في سورية والتعبئة الثقافية والاعلامية المواكبة له لبنانيا، وفّر لحزب الله تجاوز الكثير من القواعد التي طالما اعتبرها من اسس تكوينه لينخرط في المشهد السوري .التسليم بمقولة حماية بعض القرى الشيعية من الاضطهاد او حماية المقامات الدينية يوحي ان الاضطهاد في سورية لا يطال السنة او المسيحيين او سواهم. او ان المراكز الدينية المستهدفة هي مراكز الشيعة فقط وليست كل المساجد وخاصة السنية. يعكس هذا السلوك انزلاقا فاضحاً في المسارالثقافي الطائفي والمذهبي الذي يتماشى مع التجزئة ومسار نشوء كيانات طائفية.
سياق الاحداث في سورية يعزز الوجهة التي ترى ان الكيان العلوي بات الملاذ الاخير للنظام، وهو كيان لم يعد قيامه في ظل الصراع القائم، محل رفض ، بل يجري تقديمه كملاذ لا بد منه في مواجهة التيارات السنيّة التي تريد اسقاط نظام الرئيس بشار الاسد، وانهاء ما تسميه الحكم العلوي لسورية.
حزب الله دخل في التجربة، بارادته عبر تجربة الحرب المذهبية لحماية المقاومة، تجربة يمكن ان تسمح بانتساب نظام قتل هذا العدد الهائل من ابناء شعبه الى خط المقاومة، ويستعد تحت حجة حماية المقاومة او مواجهة الجماعات الارهابية (بحسب مطلح الممانعة) تبرير قيام الكيان العلوي، وصولا الى القتال حتى اخر سوري في سبيل حماية المقاومة. حزب الله الذي يحيل ما يجري الى المؤامرة على الممانعة والمقاومة، يدرك ان الذود عن الاسد واستبساله في الدفاع عن سلطته، سوف يؤدي مع تضعضع سلطة الاخير، الى مخاطر تعرض مناطق انتشاره الى الاختناق، بسبب انحسار خط الامداد الاستراتيجي الذي يوفر الحماية والحياة لسلاحه. وكما ان سورية هي عمق استراتيجي لايران، كما وصف الشيخ مهدي طائب الذي يترأس مقر «عمّار الاستراتيجي» لمكافحة الحرب الناعمة في تصريحات أدلى بها يوم الخميس، مسميا سورية بالمحافظة الإيرانية رقم 35 ومنحها أهمية استراتيجية قصوى بين المحافظات الإيرانية، قائلاً: «سوريا هي المحافظة الـ35 وتعد محافظة استراتيجية بالنسبة لنا. فإذا هاجمَنا العدو بغية احتلال سوريا أو خوزستان، الأولى بنا أن نحتفظ بسوريا».
هذا يفسر الاستماتة الايرانية في الدفاع عن نظام بشار الاسد، كما يرجح الرهان على الطائفة العلوية، لمحاولة فرض واقع قائم على توازن قوى طائفية في سورية، يتيح لايران المحافظة على وجودها الفاعل عبر الطائفة العلوية، ويؤمن لحزب الله فرص استمرار خط الامداد الاستراتيجي ولو بشروط اصعب من السابق. هذاالكيان العلوي لم يعد خيالا بل خيارا متداولا فيما لو استمرت المواجهات. وبعض المراقبين يحيل النشاط العسكري والمواجهات على القوس الشمالي- الشرقي في القرى السورية القريبة من مدينة القصير والتي يشارك فيها حزب الله، بأنها معارك ذات بعد استراتيجي، تتصل بامساك وحماية طريق حمص طرطوس ومنع الجيش الحر من السيطرة عليه، فيما تؤكد بعض المصادر السورية ان الاستراتيجية المسماة دفاعية لدى حزب الله تقتضي سيطرته على حزام امني داخل الاراضي السورية بتنسيق كامل مع كتائب علوية مأمونة الولاء، كخط امداد آمن له من الشرق الى الشمال وصولا الى طرطوس والساحل السوري.